القائمة الرئيسية

الصفحات

تحليل قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة

 

تحليل القصيدة :

نص القصيدة :

سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
هذا ما قد مَزّقَهُ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر, أصِخْ, انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ, عشرونا
لا تُحْصِ أصِخْ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ
مَوْتَى, موتَى, لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
الجامعُ ماتَ مؤذّنُهُ
الميّتُ من سيؤبّنُهُ
لم يبقَ سوى نوْحٍ وزفيرْ
الطفلُ بلا أمٍّ وأبِ
يبكي من قلبٍ ملتهِبِ
وغدًا لا شكَّ سيلقفُهُ الداءُ الشرّيرْ
يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ, الموتُ, الموتْ
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ

التحليل :

نازك الملائكة شاعرة وناقدة وأديبة عراقية. تعتبر من أبرز الأديبات العربيات اللواتي تركن بصمة واضحة في الأدب العربي. هي ربيبة الأدب وابنته فوالدتها الشاعرة سلمى عبد الرزاق وأبيها الباحث صادق الملائكة. امتازت نازك بامتلاك روح التحدي والتمرد على القوانين الأدبية التي تمثلت بتحطيمها لعمود الشعر وكتابتها للقصائد على النمط الحر. فعلى الرغم من الاختلاف بينها وبين بدر شاكر السياب بخصوص السبق بتحطيم عمود الشعر إلا أن قصيدة نازك الملائكة المعروفة باسم الكوليرا تعتبر أول قصيدة تكتب على الوزن الحر في الأدب العربي. وبذلك تكون قصيدة الكوليرا متميزة من حيث التركيب واللغة والمعنى الذي تحتويه.
الشعر ومنذ بداياته الأولى كان وسيلة للتعبير عن خبايا النفس الإنسانية عن طريق امتزاج الكلمات والأوزان لتخلق لنا صورة ومعنى ضمن إطار وحدود النص. فسواء كانت القصيدة رمزية أو رومانسية أو حتى كلاسيكية فهي تستخدم الصور والتعابير للوصول إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده الشاعر وهذا ما عمدت إليه نازك الملائكة في قصيدتها الكوليرا. ففي هذه القصيدة لم تعد الكوليرا مرضا كما نعرفه جميعنا هي رمز لشيء آخر أرادت الشاعرة أن تصل إليه من خلال استخدام الكوليرا كرمز للتعبير عن الصورة الحقيقة التي أرادت للقارئ أن يضعها في مخيلته. ومن هذا المنطلق أصبح النص الأدبي حمال أوجه وتفاسير.
رسمت الشاعرة نازك الملائكة للقارئ صورة مادية ليضعها في مخيلته من خلال كتابتها للقصيدة. ففي القصيدة تخاطب نازك الملائكة شخصا ما ربما يكون القارئ نفسه. فهي تكرر في أكثر من مكان كلمات كأصغ واسمع ولا تحص. كما أن نازك رسمت صورة قاتمة سوداوية للمدينة التي غزاها المرض. فالليل هادئ والصمت سائد ولا شيء يسمع سوى صوت المرضى وأنينهم وأصوات التكبير على جثث الموتى. لكن نازك تعود لترسم صورة الماضي لهذه المدينة فهي وادٍ مرحٍ وضاء تسلل له الموت على هيئة المرض ليفتك بالجميع بلا استثناء ولا فرق عنده بين طفل وشيخ وامرأة.
ومن ناحية المعنى فقصيدة الكوليرا كأي عمل أدبي آخر تحمل التفسير على عدة وجوه ومحامل. فإن أردنا تحليلها تحليلاً سطحيا فسنحصل على معنى وإذا تعمقنا وأمعنا النظر بالنص جيداً فسنحصل على تفسير آخر مغاير لتفسيرنا الأول. فالكوليرا التي تحدثت عنها نازك في قصيدتها هي ذلك الوباء الذي يفتك بالبشرية لا يفرق فيها بين طفل وشيخ وبين امرأة ورجل. إن أردنا أخذه بمعناه السطحي، فنازك الملائكة تتكلم عن الوباء الذي انتشر في مصر في عام 1947. الوباء الذي قتل البشر وأهلك الحرث والنسل وأحدث الخراب وسبب الآلام للعديد من الأشخاص.
لكن، السؤال الذي يواجهه كل مبدع في عملية خلقه لعمل جديد هو ما سبب ارتباطه بهذا الشيء وما الذي جعله يكتب عن هذا الشيء بالتحديد. إن أخذنا النص من ناحية تاريخية فإننا سنجد أن في نفس العام الذي وقعت فيه الكوليرا في مصر فقد وقعت ثورة في العراق. موت يقتل في مصر وثورة في العراق تناضل لبدء حياة جديدة. كلاهما موت بالنسبة لنازك فموت للخلاص من مرض جسدي وموت نظام سياسي مريض ليأتي نظام آخر يختلف عنه. فربما أرادت نازك التأكيد على أن النظام السياسي القديم قد أصابه مرض الكوليرا أيضاً وعلى الرغم من ذلك فلا يمكننا الجزم بما إذا كانت نازك تعني بالكوليرا النظام القديم أم الجديد لكن فكلا الحالتان فكلاهما يحصدان موت وخراب.
كررت نازك وأكدت في أكثر من مكان في قصيدتها على الألم ووجوده وانتشاره بين الجميع. فسواء كان هذا الألم والأنين هو أنين مرضى مصر أو أنين الشعب الذي يعاني من الأنظمة السياسية في العراق فلا فرق بينهما. فالوادي المرح الوضاء قد يكون وادي النيل وقد يكون وادي الرافدين.لا فرق فكلاهما يبحثان عن الخلاص والراحة من الألم. فلكلى الطرفين يكون الموت دواء كما قالت نازك الملائكة. فكما الجميع يعرف أن الكوليرا في السابق كان علاجها صعب فالموت لصاحبها هو الدواء وموت نظام سياسي فاسد هو الدواء والعلاج لمعاناة البشرية.
ومن ناحية أخرى، يظهر النص براعة كاتبته وإجادتها للغة وفنونها واللعب بالمفردات بطريقة تجعلها قادرة على رسم الصور والتعابير. ويستطيع القارئ لهذه القصيدة أن يلاحظ وحدة الصفات من بداية القصيدة حتى نهايتها، فالحزن متحد والألم قاسي والسكون يعم المكان. بالإضافة إلى الكوليرا التي تتحول إلى وحش تارة وفي تارة أخرى تكون هي الموت الذي يأخذ عدة أشكال وأحدها هو هذا المرض. وقد يلاحظ القارئ أن نازك فصلت بين مقطع وآخر في القصيدة بثلاثية "الموت الموت الموت" هذا التكرار لهذه المفردة لا بد من أنه يهدف إلى شيء ما عنته الشاعرة. ففي رأيي الخاص والشخصي، أرى أن الشاعرة خلقت هذه الثلاثية لتخلق بها مؤثرات صوتية ليكون كصوت إطلاق النار على محتضر أو ضحية. فسواء كانت هذه الضحية ضحية لمرض الكوليرا أم ضحية للثورة فهي تواجه الموت إما بأنين أو بالرصاص وكلا الحالتان يصلان إلى ذهن القارئ عن طريق هذه الكلمات.
كما قلنا في بداية المقال، فالأدب يحمل عدة وجوه وتفاسير. قد يكون تفسيري لعمل أدبي مختلف عن تفسير غيري له وبكلا الحالتين يكون هذا الاختلاف مصدره اختلاف الفهوم ووجهات النظر. قصيدة الكوليرا قصيدة رمزية أجادت كاتبتها إبداعها لذلك فهي من أكثر القصائد التي تتعدد تفاسيرها واستمرت مناقشتها منذ أكثر من ستين عاماً.

تعليقات

تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم - تى جو