القائمة الرئيسية

الصفحات

تحليل قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب



ذنص القصيدة :

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر

أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم
وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر
يرجُّهُ المجذافُ وَهْناً ساعةَ السحر
كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيف
كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء
"دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف
والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء
فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء
ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء
كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر
كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم..
وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر...
وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم
ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر
أُنشودة المطر
مطر مطر مطر
تحليل قصيدة أنشودة المطر

أولاً : المضمون :

يبدأ الشاعر بالحديث عن إمرأة قد تكون البصرة أو جيكور أو العراق أو إمرأة يقصدها ، مشبهاً عينيها بغابتي نخيل هجم عليهما الليل ، ولم يكتف بهذا التشبيه ، بل أردف يشبهما بشرفتين راح القمر ينسحب عنهما ، فيتركهما غارقتين في سواد الليل ، ويدعي أن هاتين العينين عندما تلمعان أو تبتسمان ، فإن الشجر العادي يكتسب خضرة ، وتتراقص الأضواء تشبه الأقمار تنعكس على صفحة نهر ينساب فيه زورق يجذف صاحبه برفق وسط الليل ، وكأن النجوم تخفق في محجري عينها . وهاتان العينان غارقتان في حزن واضح ـ حزنهما يشبه حزن البحر حين يغمره المساء . وهذا البحر ـ العينان ـ يحوي متناقضات دفء الشتاء ـ ذبول الخريف ـ وصور الموت والميلاد والعتمة والضياء !
كل هذه الصور ـ تبعث في نفس الشاعر شعوراً بضرورة البكاء ، و شعوراً آخر بالنشوة العاتية التي ترتفع روحه من خلالها إلى عناق السماء ، وهذه النشوة شبيهة بنشوة الطفل عندما يبعث فيه القمر خوفاً غامضاً ، وهو في هذه الأثناء يستشعر أمراً غريباً يتمثل في أن السحب تبتلع الغيوم المحملة بالمطر وتذوب فيها .
والشاعر في هذه اللحظة ـ المبشرة بنزول المطر ـ يستشعر مع أطفال بلاده فرحتهم وسط كروم العنب استبشاراً بسقوط المطر ، كما يستشعر أن صغار العصافير قد أحست كما الأطفال باللحظة ، وتمنت معهم أن يكون نزول المطر وشيكاً ، بل وهتفت معهم مطر ! أملاً واستبشاراً بقدومه .
وسقط المطر وجاء نهار وذهب مساء والسماء تجود بالمطر الذي يشبه دموعاً مقهورة وثقيلة ، وهذا النزول الشديد للمطر يشبه هذيان طفل ، فقد امه من عام ، ولم يتوان يبحث عنها في كل مكان ، لكنه لم يجدها ، وعندما ألح على الناس سائلاً عنها ، قالوا له إنها ستعود قريباً ، وأكدوا له ذلك ، مع أن بعضهم كان يهمس بصوت خفي حول ما حدث لها ، فهي قد ماتت ودفنت في جانب ذلك الشق ، وكأنها في موتها تسف التراب ، وتشرب ما ينزل على قبرها من مطر ، ولعل حال هذا الطفل الحائر السائل عن مصير امه وأمله الضائع في البحث عنها ، يشبه حال صياد حزين رمى شباكه أملاً بالتقاط الأسماك وهو يتسلى بالغناء ، عند غروب القمر متمنياً أن يحظى بنصيب من السمك ، كما يأمل الشاعر وأهل العراق بالحصول على الخير المتمثل في سقوط المطر .
يبدو أن المطر ـ بدلاً من أن يبعث الفرح في نفس الشاعر ، فقد كان بالنسبة له ، باعثاً على الحزن ، وقد سحب الشاعر الحزن أيضاً على المزاريب التي يتسرب من خلالها المطر ، وكيف يكون وقع المطر على الشخص المفرد مشعراً له بالضياع .
فالمطر يشبه الدم المسفوح ،ويشبه الجياع ، والحب والأطفال ، والموتى وما زال يتذكر عيني من ذكرها في البداية ، فما زالت عيناها ترافقانه وما زال يرى من خلال أمواج الخليج الرعود تمسح شواطيء العراق بالنجوم واللؤلؤ ، وكأن هذه الشواطيء وأهلها يهمون بالنهوض من واقعهم المر الذي يودون تغييره إلى الأفضل ، ولكن الليل والظلم يغطي هذي الشواطيء بثوب دامٍ ثقيل ، وفي هذه اللحظة يتدخل الشاعر صائحاً بالخليج واهب اللؤلؤ والمحار والموت لأهله ، ليجود على أهله بالخير لكن صيحته ترتد وكأنها البكاء الشديد ، مرددة نفس صيحته دون أن تلبيها .
ومع ذلك فالشاعر غير يائس من سقوط المطر ، المؤذن بتغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السيئة ، حيث إنه يسمع صوت العراق وأهله وهم يخزنون حزنهم وثورتهم في كل بقعة من أرض العراق ، في انتظار يوم يعصف فيه أهله بكل الطغاة ، ولا يبقون أثراً لهم على ثرى الوطن !
ويتصور الشاعر أن المطر قد نزل على نخل العراق ، وقام هذا النخل بامتصاص كل كميات المطر النازلة ، وهو يتخيل بل ويسمع صوت أنين أهل القرى وشكواهم ، ويرى المهاجرين الذاهبين والعائدين إلى الوطن ، يصارعون بمجاذيفهم وصواري قواربهم عواصف الخليج التي تهب عاتية عليهم آملين بالوصول إلى شط الأمان ، وهم ينشدون للمطر الذي هو عنوان خلاصهم من مآسيهم .
ومع إيمان هؤلاء والشاعر معهم بأن المطر سينزل بالتأكيد ، لكن نزوله لن يحل مشكلة الفقر والقهر والجوع ، إذ رغم سقوط المطر ، وجودة مواسم الحصاد للزرع والنخل ، فإنهم سيعانون أكثر من الجوع والفقر ، لأن الخيرات لن تعود على الزراع والحاصدين بل سيجنيها السادة المتنفذون ـ الغربان والجراد ـ ليشبعوا ويزيدوا من ثرائهم ، بينما سواد الشعب ، يحصلون على الفتات ـ حيث يتحلق هؤلاء الناس حول طواحين يدوية تطحن أسوأ أنواع الحبوب الممزوجة بالحجارة والشوائب . ولكن الشاعر يبدي تفاؤلاً جديداً عندما يذكر إصرار هؤلاء البؤساء على الأمل في نزول المطر الذي سيغير بالتأكيد صور البؤس ، ويسحق الظلم .
ويستذكر السياب بهذه المناسبة ، صورة المواطن عندما يهم بالرحيل ، طلباً للرزق أو هرباً من الظلم ، متعللين ـ مخافة أن نلام على رحيلنا ـ بالبحث عن الرزق ونشدانا لنزول المطر ! وما زال يستذكر أنه منذ صغره ، كان يرى الغيوم شتاء ويشاهد سقوط المطر ، وكانت الأرض تهتز وتربو بالزرع الأخضر ولكن مع ذلك يستمر جوع الشعب ، رغم كثرة الخير ، فقد كان قدر الشعب أن يجوع ، رغم جودة المواسم ، وكان ذلك يتكرر كل عام.
ومع ذلك فالشعب والشاعر ما زالوا ينشدون للمطر ، وكأن المطر في نظره ونظرهم هو الذي سيغسل أرض العراق ويطهرها مما تعاني من ظلم وقهر . فالمطر لا محالة آت ، وأن أطياف ألوان هذا المطر قد بدأت ترتسم على أزهار ونباتات بلاده الحمراء والصفراء ، كما بدت ترتسم على وجوه أبناء شعبه الجياع والعراة , وأن كل قطرة من دماء أبناء الشعب ، الذين صاروا في نظر الطغاة عبيداً ، ستتحول إلى أمل بسام على ثغر الطفل الذي سيولد ويحمل في دمائه الإصرار على التغيير والثورة في قادم الأيام المبشرة بنزول المطر الذي سيغير الواقع وسيكون هذه المرة من نصيب المظلومين لا من حظ السادة .
ومع التفاؤل من جانب الشاعر بتحقق الآمال ، إلا أنه في أعماقه يبدو حذراً من الإفراط في الأمل ، لذا فهو يكرر صراخه بالخيلج المنقذ والمدمر في آن ، واصفاً إياه بواهب الخيرات ، ولكن صدى صوته يرتد إليه ثانية حزيناً ، كما في المرة الأولى التي ناجى فيها الشاعر الخليج ، لكن دون جدوى . ولكن التشاؤم يتسلل إلى نفسه ـ بسبب الواقع الذي صار الناس يشكون في إمكانية تغييره .
فالخليج ـ كما يراه الشاعر ـ في اللحظة التي يهب أهل بلده اللؤلؤ والمحار الثمين ، فإنه في الوقت نفسه ، يهب الأرض ملحاً أجاجاً لا نفع فيه ، وينثر على شواطئه عظام صياد فقير قضى فيه ، وهو يغوص في أعماقه ويصارع الأمواج على وجهه ، وفي المقابل فإن في العراق آلاف الأفاعي ، التي لا تحسن إلا امتصاص دم الفقراء ، والتمتع بخيرات العراق والشاعر ما زال لا يجد إلا صدى صوته ينادي بالخليج راجياً منه إسقاط المطر . الذي سبق ورجا أن يكون هذا المطر ، هو الذي سيحقق تضحيات أبناء شعبه الذين وصفهم في مقطع سابق . وأن أمله في سقوط المطر هو أمل لا بد أن يأتي في يوم ، ويكون فيه الانتقام جزاء وفاقاً لكل من ألحق الأذى بأبناء هذا الشعب .

ثانياً : في الأسلوب

استخدم الشاعر في القصيدة أساليب عدة ، من أجل أن يرسم صوراً لواقع شعبه وأمته ، وفي الوقت نفسه كيما يعبر عن صراع هذه الأمة من أجل الوصول إلى أملها وحلمها في الثورة على الظلم وتغيير الشقاء الذي تعيش وسطه ، ورسم مستقبلها كما تريد هي ، لا كما يريده غيرها لها .
إن التنوع في قوالب عرض الأزمة التي أراد الشاعر أن يعبر عنها ، نابع من أن الأدواء التي تعيشها الأمة كثيرة ومتنوعة ومتجذرة أيضاً . وأن التنوع في تصويرها ربما يساهم في جذب اهتمام أبناء أمته إليها بعد تعريتها وسيكون له أثر فاعل في إيمان أبناء الأمة بضرورة التغيير ، والتبشير به بل والعمل على تحقيقه في النهاية .
لذا حشد الشاعر عديداً من الأساليب ووسائل التعبير ، في سبيل تحقيق ما ذكر : لقد استعمل الشاعر أسلوب التصوير القائم على التماس المشابهة بين الأشياء المادية والمعنوية ، كما عمد إلى استثمار إيراد الصور المتناقضة أو المتسقة ، وعمد أيضاً إلى استخدام أسلوب الاستفهام والتعجب والتقرير والنداء والمقارنة وتكرار بعض الألفاظ ، كما كرر بعض المقاطع أما الصور فقد كانت كلها ملتقطة من البيئة ، الخليج وخيراته وكوارثه ، الغيوم والمطر ، الصيادين والمحار واللؤلؤ ، الموتى على شواطيء الخليج ، ضحكات الأطفال وسط الكروم ، المهاجرون يصارعون الموج العاتي ، النخيل وهو يشرب المطر ، قطرات المطر الملونة بلون الزهر وبلون ضحكات الأطفال ، الأرض الحبلى بالخيرات وغير ذلك من صور الأرض والسماء والإنسان .

ثالثاً : تقويم النص :

النص من الشعر الحر أو ما سمي فيما بعد بشعر التفعيلة ، والذي كان السياب من أوائل من دعا إليه ـ وقال الشعر وفقه ، فهو شعر يلتزم بوزن مخصوص تتكرر فيه تفعيلة واحدة بغير التزام بعددها في الشطر الشعري ، وقد تتكرر فيه تفعيلتان ولكن بنظام مخصوص أيضاً ، ولا يلتزم فيه الشاعر بالقافية كما في الشعر العمودي . وهو يتيح بذلك حرية أوسع أمام الشاعر للتلاعب بعدد التفعيلات في الدفقة الشعرية ويعفيه من القافية الموحدة.
والنص يتصف بالوحدة الموضوعية ، إذ يدور حول محور واحد هو تصوير ما يحس به الشاعر من خلال شعب العراق ، وهو من لون الشعر الملتزم الذي يعالج قضايا الأمة . وفيه نبوءة واستشراف لما يحلم به الشاعر وشعبه من تغير نحو الأفضل .

تعليقات

تم الكشف عن مانع الإعلانات

الإعلانات تساعدنا في تمويل موقعنا، فالمرجو تعطيل مانع الإعلانات وساعدنا في تقديم محتوى حصري لك. شكرًا لك على الدعم - تى جو