لم ینبثق المنهج البنیوي في الفكـر الأدبـي والنقـدي فـي الدراسـات الإنسـانیة فجـأة، وا ٕ نمـا كانت له إرهاصات عدیدة تخمـرت عبـر النصـف الأول مـن القـرن العشـرین، فـي مجموعـة مـن البيئات والمدارس والاتجاهات المتعددة والمتباینة مكانا وزمانا.
حیـــث كانـــت أفكـــار العـــالم اللغـــوي السویســـري "فیردینانـــد دي سوســـیر" هـــو المنطلـــق لتوجهــات البنیویــة، مــن خــلال المبــادئ التــي أملاهــا علــى تلامیــذه فــي الدراســات اللغویــة فــي جنیف، فهي تمثل بدایة الفكر البنیوي في اللغة.
ولا یتـأتى فهـم البنیویـة إلا بالتحدیـد مفهـوم البنیـة ، Structureوهـي مشـتقة مـن الفعـل اللاتینــي Stuereأي بنــى، وهــو یعنــي الهیئــة أو الكیفیــة التــي یوجــد الشــيء علیهــا، أمــا فــي العربیة فبنیة الشيء تعني ما هو أصیل فیه وجوهري.
وقـد عرفهـا جـان بیاجیـه أنهـا: "نسـق مـن التحـولات لـه قوانینـه الخاصـة باعتبـاره نسـقا،علما من شأن هذا النسق أن یظل قائما ویزداد ثراء بفضل الدور الذي تقـوم بـه تلـك التحـولات نفسـها دون أن یكـون مـن شـأن هـذه التحـولات أن تخـرج عـن حـدود ذلـك النسـق أو أن تهیـب بأیة عناصر أخرى تكون خارجة عنه.
أي أن البنیویة تنطلق من المسلمة أن البنیـة تكتفـي بـذاتها، ولا یتطلـب إدراكهـا بـاللجوء إلى أي عنصـر مـن عناصـرها الغریبـة عنهـا وعـن طبیعتهـا، ومنـه فـالنص هـو بنیـة تتكـون مـن عناصر وهذه العناصر تخضع لقوانین تركیبة تشد أجزاء الكیان الأدبي، وقد حصر جان بیاجیه خصائص البنیة في ثلاث عناصر هي:
1- الشمولية: تعني التماسك الداخلي للوحدة، بحيث تصبح كاملة في ذاتها، وليست تشكيلا لعناصر متفرقة.
2- التحول: البنية غير ثابتة وتظل توّلد من داخلها بنى دائمة التوثب ولجملة الواحدة يتمخض عنها آلاف الجمل التي تبدو جديدة.
3- التحكم الذاتي: أن تعتمد البنية على نفسها لا على شيء خارج عنها .
نستنتج مما سبق أن مفهوم البنيوية عند:
- دي سوسير هو الوصول الى أربعة كشوف هامة تتضمن: مبدأ ثنائية العلاقات اللفظية أي (التفرقة بين الدال والمدلول)، ومبدأ اولوية النسق او النظام على العناصر، ومبدأ التفريق بين اللغة والكلام، ومبدأ التفرقة بين التزامن والتعاقب .
- جاكبسون من المدرسة الروسية الشكلية التي من أهم آرائها "تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية والدينية والانطلاق من " دراسة العمل الأدبي في ذاته "، فهي تؤكد "أن العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده الخاص المستقل
- تعني البنيوية عند جورج لوكاش: استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة .
- لقد حدد لوسيان جولدمان (1913-1970) وهو فرنسي من أصل روماني البنيوية التوليدية على أنها المنهج الذي يحلل النص الأدبي بوصفه بنية إبداعية تخبئ تحتها بنية اجتماعية . وقد أصدر جولدمان عدداً من الكتب المتصلة بقناعاته البنيوية منها: الإله الخفي وعلم اجتماع الإبداع الأدبي ومن أجل علم اجتماع الرواية .
- يرى جميل حمداوي أن البنيوية طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين أساسيتين وهما: التفكيك والتركيب، كما أنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز على شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقية النص في اختلافاته وتآلفاته .
عبد االله الغذامي: "الخطیبـة والتكفیـر مـن البنیویـة إلـى التشـریحیة" فـي 1985م، الـذي تبنـى فیه منهجین نقدیین وهما البنیویة والتشریحیة "التفكیكیة."
من أعلام النقد البنيوي في الغرب: رولان بارت، وتزفيتان تودوروف، وجيرار جينيت، وبليخانوف وغيرهم،أما في العالم العربي فمِنهم على سبيل المثال لا الحصر: حميد الحميداني، وصلاح فضل، ومحمد مفتاح.
مفاهيم بنيوية:
سنعرض في هذا الفصل أهم المبادئ أو المفاهيم التي أشاعتها البنيوية، وكان لها حضورها على المستوى النقدي التطبيقي، ومن أبرزها:
1- اللغة والكلام :
كما تحدثنا سابقا أن المشروع البنيوي نهض على أسس لغوية، ومنطلقا من تمييز دي سوسير بين اللغة والكلام، فاللغة نظام ومجموعة من القواعد والمعايير التواصلية، بينما الكلام يشتمل على التجليات الفعلية للنظام في فعلي النظام والكلام ومن اليسير الخلط بين النظام وتجلياته .
2- نظام العلاقات:
أما المبدأ الثاني لعلم اللغة الذي يستند عليه البنيويون هو أن اللغة نظام من العلاقات والتعارضات التي يجب أن تتحدد عناصرها على أساس شكلي وتخالفي ، لذلك فإن اللغة عبارة عن نظام من الوحدات المتداخلة العلاقات، وقيمة هذه الوحدات تتحدد طبقا لموضعها في النظام .
3- التزامن والتعاقب:
ومن الثنائيات الأخرى التي طرحها دي سوسير وطورها البنيويون ثنائية (التزامن والتعاقب)، فالتزامن هو زمن حركة العناصر فيما بينها في زمن واحد هو زمن نظامها داخل البنية، أما التعاقب فيمثل زمن تخلخل البنية أو زمن تهدم العنصر الذي يعبر عنه بانفتاح البنية على الزمن .
4- الحضور والغياب :
إذا كان الدال هو الصورة الصوتية للمدلول أو التصور الذهني، فإن المدلول هو الجانب الذهني للدال، إن العلاقة بينهما علاقة اعتباطية إلا أن اتحادهما يؤلف بنية الدلالة .
مميزات التحليل البنيوي ومنطلقاته:
تمثل البنيوية منهجا وصفيا يرى في العمل الأدبي نصا مغلقا على نفسه، له نظامه الداخلي الذي يكسبه وحدته، وهو نظام لا يكمن في ترتيب عناصر النص، وإنما يكمن في تلك الشبكة من العلاقات التي ينتظم وفقها. ولا غرابة في ذلك ما دامت "البنيوية الأدبية في جوهرها تركز على أدبية الأدب، وليس على وظيفة الأدب أو معنى النص، أي أن الناقد البنيوي يهتم في المقام الأول بتحديد الخصائص التي تجعل الأدب أدبا، التي تجعل القصة أو الرواية أو القصيدة نصا أدبيا."
لقد ركزت البنيوية اهتماماتها على بنية العمل الأدبي بهدف تبيان نظام اشتغاله، وذلك من خلال تحليله تحليلا داخليا، والبحث في نسقه والكشف عن العلاقات المتحكمة فيه و"تراتبها والعناصر المهيمنة على غيرها وكيفية تولدها ثم ـ وهذا أهم شيء ـ كيفية أدائها لوظائفها الجمالية". ومما لا شك فيه أن أبحاث البنيويين في مجال الأدب تركزت على الأنظمة اللغوية ومدلولاتها الأدبية، وهو ما نتج عنه تنوع النماذج البنيوية التي تم تناول النص الأدبي وفقها. غير أن ما يجمع البنيويين في نظرتهم للأدب هو دفاعهم عن خصوصية الأدب واستقلاله بموضوعه ومادته اللغوية، رافعين "شعار موت المؤلف لكي يضعوا حدا للتيارات النفسية والاجتماعية في دراسة الأدب ونقده، وبدأ تركيزهم على النص ذاته بغض النظر عن مؤلفه، أيا كان هذا المؤلف والعصر الذي ينتمي إليه والمعلومات المتصلة به. "
ولعل أهم ما ميز البنيوية هو تحليلها النص الأدبي استنادا إلى مستويات متعددة ومتداخلة بنيويا لا يمكن الفصل بينها، على اعتبار أن العمل الأدبي يعكس "كلا مكونا من عناصر مختلفة متكاملة فيما بينها، على أساس مستويات متعددة تمضي في كلا الاتجاهين الأفقي والرأسي، في نظام متعدد الجوانب متكامل الوظائف في النطاق الكلي الشامل". ويمكن تقديم هذه المستويات التي عرض لها "صلاح فضل"، انطلاقا مما اتفق عليه عدد من النقاد، على الشكل التالي:
أ ـ المستوى الصوتي: تدرس فيه الحروف ورمزيتها وتكويناتها الموسيقية من نبر وتنغيم وإيقاع.
ب ـ المستوى الصرفي: تطرح فيه الوحدات الصرفية ووظيفتها في التكوين اللغوي والأدبي خاصة.
ج ـ المستوى المعجمي: تعالج فيه الكلمات لمعرفة خصائصها الحسية والتجريدية والحيوية، وكذا المستوى الأسلوبي لها.
د ـ المستوى النحوي: يخصص لدراسة تأليف وتركيب الجمل وطرق تكوينها وخصائصها الدلالية والجمالية.
هـ ـ مستوى القول: يهتم بتحليل تراكيب الجمل وطرق تكوينها وخصائصها الدلالية والجمالية.
و ـ المستوى الدلالي: يركز على تحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة، والصور المتصلة بالأنظمة الخارجة عن حدود اللغة، والتي ترتبط بعلوم النفس والاجتماع وتمارس وظيفتها على درجات في الأدب والشعر.
ز ـ المستوى الرمزي: يؤدي إلى استنتاج وتركيب ما تقوم به المستويات السابقة من دور الدال الجديد، الذي ينتج مدلولا أدبيا جديدا يقود بدوره إلى المعنى الثاني، أو ما يسمى باللغة داخل اللغة.
ولكل مستوى من هذه المستويات قوانينه البنائية التي عبرها تتحدد البنية الأدبية المتكاملة، على أن ذلك لا يعني التماهي بين الأجناس الأدبية بقدر ما يؤكد على خصوصية كل جنس أدبي ونظامه المميز له عن غيره من الأجناس.
④ البنيوية في النقد العربي:
انتشرت البنيوية وهيمنت على النقد العربي خلال سبعينات القرن العشرين، فتلقفها النقاد العرب المحدثون مثلما كانوا قد أخذوا بغيرها من المناهج، مستفيدين من بعض الترجمات التي عرفت بها وبمميزاتها وطرائقها في تحليل النصوص الأدبية، فضلا عن بعض الدراسات التي أنجزها بعض النقاد من قبيل: يمنى العيد وكمال أبو ديب ومحمد برادة ومحمد بنيس وجابر عصفور وحميد لحمداني وعبد الفتاح كيليطو ... وغيرهم من النقاد الذين أغنوا الممارسة النقدية ودفعوا بعدد من الباحثين إلى إعادة قراءة ودراسة كثير من النصوص التي ظلت حبيسة الخزائن والمكتبات تنتظر من ينفض عنها الغبار ويعيد إليها الحياة من جديد.
ويعتبر كمال أبو ديب أبرز رواد المنهج البنيوي في العالم العربي، ذلك أنه أصل له وقام بتطبيقه على الشعر العربي في كتابين: الأول "جدلية الخفاء والتجلي، دراسة بنيوية في الشعر" طبعة 1981، والثاني عنونه بـ"الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي" طبعة 1986.
ويرجع اهتمام أغلب نقاد العقود الأخيرة من القرن العشرين بهذا المنهج إلى إحساسهم بقصور المناهج النقدية السابقة عن تقديم ذاك التحليل المتكامل للنص الأدبي، فضلا عن الرغبة في الانخراط في التحولات التي يعرفها النقد الأدبي في ظل الاحتكاك بالحداثة الغربية، والتي شكلت البنيوية أبرز ملامحها. وهكذا، أسهم المنهج البنيوي في تجديد الخطاب النقدي السائد في العالم العربي، وبلورة رؤية نقدية جديدة فتحت معالم رحبة للخوض في كثير من النصوص والبحث في أنظمتها الداخلية.
عیوب المنهج البنیوي:
یعتبر جاك دریدا Jacques Derridaمن بین الذین عاجلوا إلى هدم البنیویة والتخلـي عنها، حیث هاجم ما فیها من تجرید واختزال شكلي.
- وصفها بفلسفة لا إنسانیة لأنها تدعو إلى موت المؤلف الذي لم یعد إلا اسـما مشـطوبا علـى صفحة الغلاف للعمل الأدبي.
- هدف إلى خلع الأعمال الأدبیة عن جذورها وقتلها.
- البنیویـة شـبه علـم فهـي تخبرنـا برطانـة غریبـة ورسـوم بیانیـة وجـداول معقـدة، بأِشـیاء نعر فهـا مسبقا.
- البنیویة صورة محرفة للنقد الجدید New Criticismمن خلال التعامـل مـع الـنص كمـا أنـه مقطوع من موضوعه مستقل عن دواعي القراءة.
- البنیویـة تهمـل المعنـى وا ٕ ن كانـت تسـلم بـأن الـنص متعـدد المعـاني ولكـن عـدم اهتمامهـا بـه وجعلها على خلاف مع التأویلیین.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليقا إذا كان عندك أي استفسار